شعر النقائض

الشعر في العصر الأمويظلّت الأغراض الشعرية التي عرَفَها العصران السابقان الجاهلي وصدر الإسلام كالمدح والفخر والوصف والهجاء والغزل وغيرها، إلا أن روح العصر ساعدت على نهضة فنون منها واضمحلال غيرها، نظرًا لتغير البيئة العصرية، واتساع رقعة الدولة واستقرار الناس في المدن والأمصار، واختلاط العرب بغيرهم من الفرس والروم إضافة إلى ما أتاحته الأوضاع السياسية المتلاحمة في ذلك الوقت من انقسامات وتحزبات، فازدهر لذلك الشعر السياسي، وكان الكميت والطرماح وابن قيس الرقيات من أشهر شعرائه، وشعر المدائح وشعر النقائض التي بلغت ذروة ازدهارها في العصر الأموي وكان من أشهر شعراء النقائض جرير والأخطل والفرزدق


مفهوم شعر النقاضترد النقائض إلى الجذر اللغوي نقض، ويعني أبطل، والنقض إبطال حكم ما أو نكث غزل لإعادة تسويته وبنائه[١]"، ولكن هذا اللفظ لم يقتصر في استخدامه اللغوي على مفهومه المعجمي المحض، فقد حتمت طبيعة اللغة وظروف البيئة التي يعيشها الناس إلى توسيع هذا المفهوم واستخدامه للتعبير عن فن من فنون الرد الكلامي، ومنه انتقل للتعبير عن فن من فنون الشعر، التي يسعى الشاعر من خلالها للرد على قصيدة ينسجها الخصم ورد ما فيها من مضامين واتهامات، من خلال قصيدة أخرى لها ذات الوزن والقافية، وعلى الرغم من أن هذا الفن كان متأصلًا لدى العرب إلا أنه قد ازدهر وأرسيت مقوماته على يد جرير والفرزدق والأخطل وهم أشهر شعراء النقائض في العصر الأموي


نشأة شعر النقائضشجّعت الحياة الجاهلية التي قامت على التنافس بين القبائل من ناحية، وبين الأفراد من ناحية أخرى، على نشوء فن النقائض في البيئة الجاهلية كفن من فنون الشعر التي عرفها الناس آنذاك، ولعلها قد اتصلت في بداية نشأتها بتلك المعارك الكلامية التي كان الشعراء يخوضونها في سبيل الدفاع عن القبيلة وإعلاء شأنها والنيل من خصومها، وإثبات ذواتهم وانتمائهم لها، ولعل خير ما يشهد على هذا اللون من النقائض الأولى ما جرى بين شعراء الأوس والخزرج قبل الإسلام من منافرات ومفاخرات حملت مضمون النقائض من فخر وهجاء دون التزام بسائر الأشكال الفنية من وحدة الوزن والقافية بين النقيضتين، وقد امتازت النقائض آنذاك بالعفوية والارتجال الذي تتطلبه طبيعة هذا الفن، إضافة إلى الروح القبلية والتفاخر بالأنساب والأحساب و الشتم والقذف وما إلى ذلك مما استخدمه الشعراء كسلاح لمواجهة خصومهم والتشهير بهم. أما في عصر صدر الإسلام فقد اشتعلت حرب النقائض واشتدت فيما دار بين المسلمين والكفار من مواجهات كلامية، وقد امتازت عن نظيرتها في العصر الجاهلي بما اكتست به من روح دينية ومذهبية فكرية دفعت كل فريق للدفاع عن مبادئه الدعوية وفلسفته الدينية ولعل الروح القبلية قد أخذت بالتراجع والاضمحلال أمام ما حملته من مضامين فكرية ودينية لا سيما في شعر المسلمين من أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة الذين استنشد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم كسلاح في وجه الكافرين حيث قال: "فو الذي نَفْسي بيَدِه، لكَلامُه عليهم أشَدُّ مِن وَقْعِ النَّبْلِ"[٢]، فقد أدرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهمية الشعر ودوره في تثبيط مسيرة الخصم ودحضها وما له من دور دعوي بارز من شأنه أن يدعم الإسلام ومبادئه ويؤرخ له . أما في العصر الأموي، فقد كانت الخلافات المتتابعة للملوك والحكام على عرش الدولة الأموية، وظهور الفتن السياسية و التحزبات المذهبية، إضافة لاختلاط العرب بغيرهم من الأجناس وظهور الفتن والمجون واسترداد الروح القبلية والتعصبات للأحساب والأنساب كفيلة بتأجيج فن النقائض لتبلغ ذروتها على المستوى الفني والمضموني، ولعلها قد تفوقت على غيرها من الألوان الشعرية في العصر الأموي إذ مزجت بين كثير من المضامين الشعرية كالفخر والمدح والهجاء والغزل أحيانًا، وقد ارتبط هذا الفن في هذا العصر ارتباطًا وثيقًا بثلاثة من الشعراء هم جرير والفرزدق والأخطل الذين كانوا في عراك كلامي دائم بلغ بهم حد القذف والقذع والشتم، وهم على الرغم من احتدام العراك النقائضي فيما بينهم إلا أنهم لم يسمحوا له أن يتغلغل في ذواتهم فقد ظلت قلوبهم نقية يربطها عقد الصداقة الذي نُسج بفعل النقائض.


القيمة الأدبية والتاريخية للنقائضشكلت النقائض الشعرية مصدرًا غنيًا للدراسات الاجتماعية والنقدية في العصور اللاحقة، فهي وثيقة أدبية مهمة ضمت في فحواها الكثير من المفردات والتراكيب التي استخدمت في العصر الأموي، للتعبير عما يجول في الخاطر حتى تغيرت وتبدلت دلالاتها في العصور اللاحقة، فظلت شاهدة على روح العصر الأموي وثقافته التي مزجت بين التقاليد الشعرية الجاهلية لاسيما أن شعراء العصر الأموي كان فيهم ممن تشرب الشعر الجاهلي حتى سار على خطاه، وبين روح البداوة التي تجلت في عباراتهم وعواطفهم التي امتازت بالعفة والصدق، وتجليات العصر الإسلامي بما نقله إليهم من مفردات إسلامية ومضامين دينية، وقيمة النقائض لا تقتصر على جانبها الأدبي وحسب، فهي أيضًا سجل تاريخي عميق لم يضن علينا بما تتبعه من مراحل انتقال الخلافة بين خليفة وآخر، وبما سجله من مراحل الصراع والتلاحم بين الأحزاب السياسية التي فتت في عضد الدولة حتى سقطت في يد العباسيين، ولم تتوان النقائض الشعرية عن نقل القيم الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك كالكرم وحسن الخلق والشجاعة وما إلى ذلك، والتي حرص أشهر شعراء النقائض على التغني بها.