السينما والسريالية .. بقلم معتز عرفان

تمثل السريالية الدمج بين الواقع والخيال، والعمل علي تقديم هذا المحتوي ضمن إطار محدد يضعه المخرج ويعمل علي تطويره. وتجنح إلي ما فوق الواقعية، وتحاول الوصول إلي اللاوعي والأفكار المتناثرة الكامنة بدواخل النفس البشرية. كما تهتم باستخدام صور صادمة وكادرات فنية متناثرة خارجة عن الإطار السردي الخاص بالحبكة، لتخلق في النهاية حالة من الصدمة يتلقاها المشاهد ضمن بيئة مفعمة بالنشوة والذهول.

بدأت السريالية في الظهور في العقد الثاني من القرن العشرين، وتطورت بعد ذلك لتعبر عن أفكارها بشكل ثوري يهدف إلي التمرد علي القواعد السينمائية المعهودة، ويسمح للمخرجين بالحصول علي مساحة واسعة من الإبداع والتعبير. يعتبر الكثيرون المخرج الإسباني "لويس بونويل" الأب الروحي للسينما السريالية والمؤسس الأول لها، وقد قدم الرجل في عام 1929 فيلمه الشهير "كلب أندلسي" بالتعاون مع الفنان السريالي المعروف سلفادور دالي، وحقق الفيلم نجاحاً باهراً وقتها. يعتمد هذا العمل السينمائي علي الأحلام الخاصة بلويس بونويل وسلفادور دالي، ويعبر عن أفكارهما بشكل استثنائي وصادم، ليعرض علي المشاهد تجربة سينمائية جديدة ومميزة. يحتوي علي كادرات غريبة مثل لقطة عجيبة لغيوم مارة بجوار القمر، وصورة لشفرة حلاقة قاطعة لعين بشرية، وغيرها من المشاهد الغريبة المستمدة في الأساس من أحلامهما. وفي عام 1967، قدم بونويل فيلمه "جميلة النهار"، وهو فيلم سينمائي شهير من بطولة الممثلة الفرنسية الجميلة كاترين دونوف وميشيل بيكولي، ويهتم بعرض قصة السيدة سيفرين التي تعيش مع زوجها في حالة من البرود واللامبالاة. تحاول سيفرين الخروج من حالة البرود المهيمنة علي حياتها والقابعة في روحها؛ لتتمرد علي القواعد المجتمعية ولينتهي بها الأمر إلي العمل بماخور سري في أحد الأزقة الباريسية هناك. تعمل أثناء فترة النهار، وتأخذ فترة مطولة حتي تعتاد الأمور هناك، لتصبح بعد ذلك خبيرةً بالمجال، بينما يعيش زوجها في عالمه الخاص. تتوالي الأحداث ضمن إطار سريالي واضح يعرضه بونويل بشكل استثنائي وعظيم، وتظهر لقطات فجائية وصادمة، ليخرج الرجل عن الإطار السردي الخاص بالحبكة، وليستخدم الدافع السريالي كمبرر لخروجه عن النص المعهود والإطار السردي المعروض. بالطبع، يعرض قصته ضمن إطار منطقي واضح مستخدماً موهبته الفريدة، ليدرج سرياليته الخاصة به دون الإخلال بالمحتوي الكلي الخاص بالسرد، ويستخدم كاترين دونوف كعامل رئيسي وفعال بالفيلم معتمداً علي موهبتها التمثيلية وجمالها الخلاب؛ ليضفي علي العمل طابعه الفني الفريد مستخدماً الأسلوب الفجائي الخاص بالسريالية والأفكار الثورية الخاصة بمحتوي القصة نفسها. 

 

في عام 1972، قدم بونويل فيلمه المميز "سحر البرجوازية"، وهو فيلم سينمائي يعتمد بشكل واضح علي حبكة عبثية تقوم علي المحاولات المتكررة لمجموعة من أفراد الطبقة المتوسطة، والتي من شأنها أن تمكنهم من الاجتماع سوياً من أجل تناول وجبة العشاء. يعرض الفيلم الكثير من اللقطات الغريبة، والتي تظهر الأمور بشكل عكسي وغير تقليدي عبر الاستخدام المفرط للعنصر السريالي، والذي يدمج بطبيعة الحال بين الواقعية والخيال. كما يناقش طبيعة البرجوازيين والأجواء المحيطة بهم، ويسمح للمشاهد بالتعرض للكثير من المواقف الظريفة والغريبة، والتي من شأنها أن تجذب انتباهه وتثير حواسه. قدم بونويل في عام 1974 فيلمه السينمائي "شبح الحرية"، وهو عمل مميز يقوم بشكل رئيسي علي التسلسل السريالي للأحداث والتشكل التدريجي الصادم للكادرات الفنية، ليسمح له بعرض فكرته القائمة علي نقد المجتمع ومناقشة الأخلاقيات الخاصة به في أفضل صورة ممكنة. لم يكتف بونويل بهذا الفيلم فحسب، بل أتبعه في عام 1977 بفيلمه الأخير "الجانب الغامض للرغبة"، والذي يعرض من خلاله المواجهات القاسية بين الواقع والوهم، والصراع الأزلي بينهما. كما يعرض الملذات والرغبات، والصراع القائم في ذهن شخصيته الرئيسية "ماتيو"، والتي يجسدها الممثل الإسباني فرناندو راي بشكل رائع ومميز، بينما تؤدي شخصية "كونشيتا" أنجيلا مولينا، وكارول بوكويت في دور مزدوج ومزعج لشخصية "ماتيو". 

يحاول ماتيو الحصول علي كونشيتا بكل الطرق لتظهر له الفتاة بشكل متغير ومتلون علي طول الطريق، حيث تظهر له في ثوبين مختلفين؛ أحدهما ملائكي والآخر شيطاني لتسبب له الكثير من البلبلة والاضطراب، وليخرج عن شعوره في نهاية المطاف. بالطبع، يعرض بونويل فيلمه بشكل اندماجي ليسمح للسريالية بأن تنساب إلي الدراما الخاصة بالحبكة، وليخلق لنفسه متنفسه المعتاد والمميز، ليصنع في النهاية فيلماً سينمائياً مميزاً بينما يلتقط أنفاسه الأخيرة. تستمد السريالية روحها من الخيال، وتسمح لمتبعها بمساحة فنية واسعة ورحبة؛ ليقدم أفكاره بشكل انسيابي وخلاق، وقد تطورت عبر العقود المتتابعة لتشمل الفنتازيات والأحلام والهلاوس وحالات التخدير المختلفة والمرتبطة بتلاشي الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال. ويُعد المخرج الأمريكي تيم برتون سيد الفنتازيا، وقد عمل علي الكثير من الأفلام التي تدمج بين الواقع والخيال لتنتج في النهاية إطاراً فنياً مميزاً ذا أسلوب خاص. ويُعد الممثل الأمريكي الشهير جوني ديب الحليف الأهم والأشهر في مسيرة برتون، وقد عمل معه من خلال أفلام كثيرة مثل إد وود، وإدوارد صاحب المقصات، وسويني تود، وسليبي هولو، وغيرها من الأفلام العظيمة والتي دمجت بين الخيال والواقع بشكل واضح ومميز. تعتمد أفلام برتون علي الفنتازيا بشكل واضح لكنها تأخد الجانب السريالي من خلال الدمج بين الواقع والخيال، وهو ما يحدث في عدد من هذه الأفلام بشكل مختلف تماماً عن بونويل أو بمعني أصح عن التطبيق الكلي والتقليدي المُتبع من قبل رواد المدرسة السريالية، حيث يهتم بعملية عرض الخيال بشكل أكبر من عملية الدمج بينه وبين الواقع، لكنه في نفس الوقت لا يتخلي عن فكرة الدمج بل يمارسها في العديد من المشاهد والكادرات السينمائية الفنية. في فيلمه "أليس في بلاد العجائب"، يستمد برتون سرياليته من الأحجام والأشكال الغريبة للشخصيات، والتي تجعل المشاهد يشعر وكأنه منغمس في حلم أو في تسلسل مبني بشكل أساسي علي الخيال. هنا يدمج الرجل بين الجسد البشري بمواصفاته المعهودة من جهة وبين الخيال من جهة أخري، وفي نفس الوقت يخلق درجة من التغير في بعض أجزاء الجسد البشري ليقدم في النهاية شخصيات مختلفة وغريبة. تظهر عملية الدمج بين الواقع والخيال ليخلق لنفسه عالمه السريالي الخاص، وتظهر سرياليته في أفلامه الأخرى بصورة مستمدة من الفنتازيا والخيال مثل المقصات التي يضيفها إلي شخصية إدوارد، والغرائبية التي يضفيها علي شخصية سويني تود، والرأس المختفية لإحدي شخصيات سليبي هولو، وغيرها من الأمثلة التي من شأنها أن تصنع العالم السريالي الخاص بالمخرج الأمريكي تيم برتون والقائم علي الدمج بين الواقع والخيال. قد ترتبط السريالية السينمائية بالغرائبية وإدراج الجانب الغرائبي ضمن الحبكة الفيلمية، ومن الممكن أن نشهد هذه الخلطة الفنية من خلال أعمال المخرج الشهير رومان بولانكسي، ومن الممكن أن نأخذ من فيلمه "البوابة التاسعة" كمثال علي ذلك، وقد أنجزه مع جوني ديب أثناء وجوده في أوروبا، لنحصل في النهاية علي فيلم مفعم بالغرائبية والسريالية بصورة واضحة. يستمد العمل سرياليته من خلال الرحلة التي يخوضها المهووس بالكتب "كورسو"، والذي ينطلق عبر جولة شيطانية بهدف جمع ثلاثة كتب مكتوبة بواسطة شخصين أحدهما الشيطان نفسه، وتظهر في الفيلم زوجة بولانسكي إيمانويل سينيه، ولينا أولين، وفرانك لانجلا، ليقدم بولانسكي في النهاية فيلما مثيرا ومميزا. تظهر السريالية في أعين الفتاة المتلونة وحركاتها العبثية، والاضطرابات غير المبررة التي تشهدها الكادرات السينمائية الخاصة بالفيلم، لينجح الرجل في النهاية في خلق بيئة متأصلة ومدمجة من الواقعية والخيال. وتُعد أعمال المخرج ديفيد لينش سرياليةً ضمن إطار مختلف، فعندما ننظر إلي فيلم "مالهولاند درايف"، فإننا بصدد التحدث عن فيلم سينمائي مفعم بالسريالية، والدمج بين الواقع والخيال، حيث نجد شخصيتا ناعومي واتس ولورا هرنج منغمستين في حالة من التأرجح بين الواقع والخيال، والانخراط في عالم يشبه عالم الأحلام. يستمد الفيلم سرياليته من خلال التنقل الغريب بين الأحداث، ولا يتوقف الأمر عند ذلك فحسب بل تشعر وكأنك تشاهد فيلماً بداخل فيلم آخر. تشعر وكأن القصة تنساب لتتكون قصة أخري جديدة ومختلفة، وتتحقق السريالية بشكل واضح من خلال إدراج بعض العناصر الغريبة داخل الإطار الكلي للفيلم، وقد أحدث هذ العمل ضجةً كبيرةً في هوليوود، لأنه أظهر نوعاً جديداً من صناعة الأفلام، ولم يتوقف عند ذلك فحسب بل أعطي دفعةً كبيرةً للمسيرة الفنية الخاصة بكل من لينش وواتس. ومن المخرجين السرياليين أيضاً، المخرج الأمريكي تيري جيليام والذي أظهر جانبه السريالي من خلال الاعتماد علي عدد كبير من الأفلام، ومن بينها فيلم الخوف والبغض في لاس فيجاس. في هذا العمل السينمائي، ينطلق الصحفي الغريب راؤول دوك وصديقه المحامي السيكوباتي دكتور جونزو في رحلة عبثية إلي لاس فيجاس محملين بالعديد من الأنواع المختلفة للمخدرات والمهلوسات ضمن إطار عبثي يرصده جيليام، ويجسده جوني ديب مع فريق من الممثلين يتضمن كل من بينيشيو ديل تورو وتوبي ماجوير وكريستينا ريتشي وكاميرون دياز. يعتمد الفيلم علي الرواية الشهيرة للصحفي هانتر اس طومسون، والتي تحمل نفس الاسم وتعتمد علي إظهار الجانب السلبي للمخدرات، وفِي نفس الوقت تظهر قدراً كبيراً من السخرية فيما يتعلق بالحلم الأمريكي والأوهام المتعلقة به. في العمق، يسخر الفيلم من فكرة الحلم الأمريكي واصفاً إياها بالوهم ومصنفاً المؤمنين بها بالسذج، فقد بدأت كفكرة هادفة جميلة مفعمة بالبهجة والأمل والتفاؤل، لكنها تدهورت مع الوقت كنتيجة للتكالب وفقدان الأخلاق وانهيار القيم والمبادئ من أجل المادة. أدت المادية المبالغ فيها إلي انهيار الأخلاق، وأدي التكالب علي المادة إلي إنهاك الأرواح، وفقدت الفكرة مثاليتها الزائفة سريعاً لتسقط طريحة الأرض، هي وكل أتباعها الحالمين سابقاً والمتكالبين لاحقاً. تسيطر الهلاوس والأوهام علي دوك وجونزو بشكل غير عادي مانحةً جيليام القدرة علي خلق بيئة سريالية مميزة قادرة علي الدمج بين الواقع والخيال، ومفعمة بالإبداع والتميز. يمنح السيناريو المميز تيري جيليام القدرة علي الإبداع، وخلق شخصيات عميقة ومميزة، وفِي نفس الوقت ينجح ديب في خلق شخصية استثنائية وهامة مانحاً رواية طومسون قدراً كبيراً من الانتعاش، ليضخ الدماء في عروقها ببراعة، وليعيدها إلي طاولة النقاش الفني من جديد. ومن الأمثلة الأخري علي السينما السريالية، فيلم "ماجنوليا" لبول توماس أندرسون والذي يستمد سرياليته في إطار محدود من خلال أحد المشاهد المميزة للغاية والذي يشمل تساقطاً سريعاً للكثير من الضفادع من السماء لتنزل بشكل كثيف علي المدينة ولتملأها بدرجة كبيرة من الريبة والاضطراب. ولا يمكننا أن ننسي اللقطات السريالية في أفلام المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني، والتي من شأنها أن تخلق إطاراً سريالياً مبنياً علي إدراج عناصر غريبة ومريبة ضمن البيئة الشاملة للقصة المعروضة، وقد يمثل فيلمه الشهير "ثمانية ونصف" مثالا واضحا للتعبير عن هذه الحالة المفعمة بالإثارة والتشويق. 

معتز عرفان